فصل: مسألة شاهد الزورهل تقبل شهادته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يأتي بشاهد على حقه وهو كبير سفيه مولى عليه قد احتلم:

وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يأتي بشاهد على حقه وهو كبير سفيه مولى عليه قد احتلم، أنه يحلف مع شاهده، وإن كان سفيها، وليس هذا مثل الصبي هاهنا، فإن أبى أن يحلف حلف الآخر وبرئ، فإن نكل غرم، وإن حلف برئ، ولم يستأن به كما يستأنى بالصغير، وقاله أصبغ كله، والسفيه في اليمين بمنزلة العبد والنصراني، وهما يحلفان في حقوقهما، والحقوق تقع عليهما، هذه السنة الثابتة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الكبير السفيه المولى عليه يحلف مع شاهده، وهذا فيما لم يل وليه المبايعة فيه عليه، وأما ما ولي فيه المبايعة عليه مثل أن يبيع له سلعة، فينكر المبتاع، ويجحد الثمن، فإن كان دفع السلعة حلف هو مع الشاهد باتفاق، فإن نكل عن اليمين حلف المبتاع، وغرم هو؛ إذ لم يشهد، قيل: القيمة؛ على القول بأن الإشهاد لا يلزمه إلا عند دفع السلعة، وقيل: الأكثر من القيمة، أو الثمن؛ على القول بأنه يلزمه الإشهاد على الثمن، وإن لم يدفع السلعة، وإن كان لم يدفع السلعة فقيل: إنه لا يمين عليه مع الشاهد، ويحلف المولى عليه معه، وقيل: إنه هو الذي يحلف، فإن نكل عن اليمين غرم بعد يمين المشتري، وهذا على الاختلاف في وجوب الإشهاد عليه بالثمن، وإن لم يدفع السلعة، فإن نكل السفيه عن اليمين مع الشاهد في الموضع الذي يحلف فيه معه حلف المطلوب وبرئ، ولم يكن للسفيه أن يحلف إذا رشد كالكبير المالك لأمر نفسه، وقال ابن كنانة: إن نكل عن اليمين حلف المطلوب، وبرئ إلى أن يرشد السفيه، فيحلف ويستحق حقه كالصغير، وبه قال مطرف، وهو أظهر من قول ابن القاسم، وأما الصغير فلا يحلف مع شاهده، ويؤخر عنه اليمين إلى أن يبلغ بعد أن يحلف المطلوب، ولا يحلف مع شاهده، ولا الولي عنه، وقد روي عن مالك أنه يحلف مع شاهده، وهو بعيد شاذ، وعن ابن كنانة أن الأب يحلف عنه. وهذا كله فيما لم يل وليه المعاملة فيه، وأما ما ولي المعاملة فيه فيحلف؛ لأنه إن نكل غرم بما صنع من الإشهاد، وأما العبد المأذون له في التجارة والنصراني، فهما كالكبير كما قال: يحلفان في حقوقهما يريد مع شاهدهما، وفي الحقوق تقع عليهما يريد بالدعوى، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد عليه رجلان بجرحة فقالا رأيناه سكران:

قال: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه رجلان بجرحة فقالا: رأيناه سكران، أو رأيناه يسرق؛ فجرحاه بذلك في شهادة شهداها أنه يقام عليه الحد إذا قطعا عند الحاكم بمعاينة، فهو علم ودياه يومئذ، فهي شهادة يؤديانها، ولا يضرهما تركهما قبل ذلك؛ لأن ذلك ستر سترا به عليه.
قال محمد بن رشد: في المدنية لمالك من رواية محمد بن صدقة، مثل رواية أصبغ هذه: إنه يقام عليه الحد، وقال عيسى عن ابن القاسم: لا أرى أن يقطع ولا يحد، وقال عيسى: أحب إلي أن يقطع ويحد، وهو الذي يوجبه النظر للعلة التي ذكرها من أن الشاهد لا يضره ترك القيام بشهادته على السارق والزاني؛ لما أمر به من الستر، وبالله التوفيق.

.مسألة الشاهد تجوز شهادته للمشهود له إذا كان موسرا بماله عليه من الدين مليا به:

قال أصبغ: قال لي ابن القاسم في رجل أقام على ميت بينة بألف دينار، فجاء أولياء المقتول بشهيدين يشهدان أنه أبرأه، فجاء المدعي بشهيدين على هذين الشهيدين أن للميت عليهما دينا، أو له عندهما مالا قراضا أو وديعة؛ أنهما إن كانا موسرين بذلك جازت شهادتهما على ما شهدا، وإن كانا غير موسرين بذلك لم تجز شهادتهما؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما الطلب، وما أشبه ذلك، وإنهما إن أقرا بالدين إلا أنهما معسران، لم ينفعهما ذلك، ولم تجز شهادتهما، وإن قالا في الوديعة والقراض قد ضاع ذلك، فأما الوديعة فأرى شهادتهما جائزة، ولا يستحلفهما إن لم يكونا متهمين، وإن كانا متهمين استحلفا، وسكت عن الجواب في القراض هاهنا، ولم يجب بشيء، قال أصبغ: وأرى أنهما سواء، وذلك إذا كان ذهابهما طريا، مما لا يجري عليهما فيه خصومة ولا حجة، وإن ذكرا ذهابا قديما مما تدخل فيه التهمة والخصومة، لم تجز شهادتهما.
قال الإمام القاضي: قوله: إنهما إن كانا موسرين بذلك، جازت شهادتهما على ما شهدا به صحيح لا اختلاف في أن الشاهد تجوز شهادته للمشهود له إذا كان موسرا بماله عليه من الدين مليا به، لا مشقة عليه في إحضاره، كما أنه لا اختلاف عندي في أن شهادته له لا تجوز إذا كان مليا بماله عليه من الدين، إلا أنه لا يمكنه إحضاره إلا ببيع ما يشق عليه من عقاره وعروضه؛ لأنه يتهم أن يكون إنما شهد له ليؤخره إلى أن تأتي فائدته، فلا يبيع عقاره وعروضه، واختلف إذا كان معدما، فلم ير ابن القاسم شهادته له جائزة، وإن كان الحكم يوجب تأخيره؛ لأنه اتهمه أن يكون إنما شهد له ليترك طلبه وتحليفه، وذلك بين من قوله في هذه الرواية؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما الطلب وما أشبه ذلك، ورأى أشهب شهادته له جائزة على ما مضى له في سماع زونان؛ لأن الحكم يوجب له التأخير، فلم يتهمه في أنه شهد له ليسقط عنه اليمين، ورأى ذلك خفيفا، لا يتهم العدل في مثله، فهذا تحصيل هذه المسألة عندي: وجه تجوز فيه شهادته باتفاق، ووجه لا تجوز فيه باتفاق، ووجه يختلف في جوازها فيه.
وقوله: وإن قالا في الوديعة والقراض قد ضاع ذلك، فأما الوديعة فأرى شهادتهما جائزة، ولا يستحلفهما، بين لا إشكال فيه؛ لأنه إذا لم يجب عليهما غرم ولا يمين فلا وجه لإسقاط شهادتهما، وقال: إنهما إن كان متهمين استحلفا، يريد وبطلت شهادتهما؛ إذ لا يتهم بجحد الودائع إلا من ليس بعدل، فإذا ادعى الذي عنده الوديعة أو القراض أنه ضاع منذ مدة لزمته اليمين عند ابن القاسم، وإن كان عدلا، ولم تجز شهادته؛ لأنه يتهم أن يكون إنما شهد ليسقط عنه اليمين، ولزمه الغرم عند أصبغ، قاله في سماعه، من كتاب الوديعة، وعليه يدل قوله هاهنا، وإن كان ذهابها قديما مما تدخل فيه التهمة والخصومة لم تجز شهادتهما؛ لأن وجه الخصومة في ذلك على مذهبه أن يكلف إقامة البينة على أنه قد سمع منه التشكي بتلفها، فإن لم يأت على ذلك ببينة لزمه الغرم، وإن كان التلف قريبا لم تلزمه يمين، وجازت شهادته، ويأتي على قياس رواية ابن نافع عن مالك في إيجاب اليمين عليه، وإن لم يتهم ألا تجوز شهادته، وأشهب يخفف أمر اليمين، فيرى شهادته جائزة، إلا في الموضع الذي يجب عليه فيه الضمان، وبالله التوفيق.

.مسألة له عليه حق فيلزمه فيطلب من آخر أن يعطيه دنانيره ويشهد على ذلك:

ومن كتاب القضاء المحض:
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل له على رجل حق فيلزمه، فقال الملزوم لرجل معه: اذهب ائتني بدنانير، فذهب الرجل فأتاه بدنانير، فدفعها إليه، فقبضها منه، وأوصلها إلى الذي يسأله الحق، ثم لبثوا أياما، فأتى الرجل المرسل إلى صاحب الحق الطالب يسأله شهادته بدفعه الدنانير إلى الذي عليه الحق، وزعم أنها له، وأراد أخذها من الذي عليه الحق، أترى للذي له الحق الطالب أن يشهد؟ وهل ترى شهادته جائزة؟ قال: نعم، أرى شهادته جائزة؛ لأنه قد انقطع ما بينهما، ولا يجر بها إلى نفسه شيئا، وليس للذي كان الحق عليه هاهنا حجة تطرح بها شهادته، ولا يدفعها بشيء، وليس هاهنا تهمة، فأرى شهادته جائزة، وقاله أصبغ، ولو كان إنما هو دفعها إليه عنه لم تجز، ولكنه دفعها إلى صاحبه، فكان هو الدافع عن نفسه إلى الغريم، فشهادته جائزة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، لا إشكال فيها، فلا معنى للقول فيها، وبالله التوفيق.

.مسألة قوله إحدى امرأتيه أو امرأته وله امرأتان طالق:

قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهد واحد أنه حلف على شيء أنه إن فعله فامرأته طالق، وشهد آخر أنه قال: إن فعله فإحدى امرأتيه طالق، ففعله وجحد شهادتهما، قال: لا تجوز شهادتهما؛ لأنها قد اختلفت. قال أصبغ: لا يعجبني ما قال ابن القاسم، ولا أدري كيف أجاب فيها بفهم أو بغير فهم، أو علم أو غيره، وأرى قوله: إحدى امرأتيه أو امرأته، وله امرأتان سواء، لا يفترق ذلك؛ لأن الحكم فيه يرجع إلى أمر واحد، وإلى النية والتدين، فإن كانت واحدة وإلا طلقتا جميعا، فهي شهادة مجتمعة غير مفترقة، فإن أقربها وادعى النية فله ذلك، وإن أنكرها كان كمن أقر، ولا نية له، فتطلقان جميعا بالشهادة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم العرية، من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يشهدون على شهادة الرجل عند القاضي وهم لا يعرفونه والقاضي يعرفه بالعدالة:

قال أصبغ: سألت أشهب عن القوم يشهدون على شهادة الرجل عند القاضي، وهم لا يعرفونه، والقاضي يعرفه بالعدالة أو يعدله عند القاضي غيرهم، أتجوز شهادته بعينه؟ قال: نعم؛ إذا عرفه القاضي بالعدالة جازت شهادته، قال أصبغ: ذلك بعد معرفة أخرى بأنه الرجل الذي شهد على شهادته بعينه لا يحتمل اسمه لغيره، فيكون غير الذي عرف القاضي بالعدالة والمعدلون.
قال الإمام القاضي: قوله: وهم لا يعرفونه؛ معناه لا يعرفونه بالعدالة، ويعرفونه بالعين والاسم، مع أن يكون مشهورا لا يختلط بغيره، وأما إن كانوا لا يعرفونه بالعين والاسم، أو كانوا يعرفونه بالعين والاسم ولكن ليس بمشهور، فلا تجوز الشهادة؛ لاحتمال أن يكون الذي شهدوا على شهادته غير الذي عرفه القاضي بالعدالة والمعدلون، وهذا معنى قول أصبغ، فهو تفسير لقول ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة تحليف الرجل أباه في حق يدعيه فيه:

وسئل عن الذي يقع له القضاء على أبيه باستحلافه، أو الحد يقع له عليه، فيريد أخذه فيقال له: إنه عقوق أن تستحلفه أو تحده فيستحلفه أو يحده، فقال: لا تجوز شهادته، قيل له: فإن كان جاهلا بأنه عقوق، فرأى ألا تجوز أيضا شهادته وقال: إن عذر بالجهالة في هذا عذر أيضا في أشياء كثيرة من ارتكاب الحرام، وما أشبه ذلك، فلا أرى أن تجوز شهادته، قال أصبغ: ثم سألته أيضا عمن استحلف أباه في حقه، وحقه حق، قال: أراه عقوقا، وإن كان حقه حقا، فلا أرى أن تجوز شهادته.
قال محمد بن رشد: اختلف في تحليف الرجل أباه في حق يدعيه فيه، أو حده على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك مكروه، وليس بعقوق فيقضى له بذلك، ولا تسقط به شهادته. والثاني: أن ذلك عقوق، فلا يقضى له بذلك، وهو مذهب مالك في المدونة في اليمين، في كتاب المديان، وفي الحد في كتاب القذف، وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لما أوجبه الله من بر الأبوين بنص القرآن، وبما تظاهرت به الآثار، وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يمين للولد على والده، ولا للعبد على سيده». والثالث: أن ذلك عقوق، إلا أنه يقضى له به، وتكون جرحة فيه تسقط به شهادته، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو بعيد؛ لأن العقوق إن كان من الكبائر، فلا ينبغي أن يمكن من فعله أحد، وبالله التوفيق.

.مسألة تفتدي من زوجها ويقوم لها بينة يشهدون لها على السماع أن زوجها كان يضربها:

ومن كتاب النكاح:
قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن التي تفتدي من زوجها ويقوم لها بينة يشهدون لها على السماع أن زوجها كان يضربها؛ أتجوز في مثل هذا شهادة السماع؟ قال: نعم، ومن يشهد في هذا إلا بالسماع؟ يسمع في ذلك الرجل من أهله، ومن الجيران، وما أشبه ذلك، ويكون ذلك أمرا فاشيا، قلت: أفيجوز في مثل هذا شاهدان على السماع؟ فقال: السماع البين في مثل هذا، والأمر المعروف أحب إلي، وعسى بهذا أن يجوز، فأرى أن تجوز.
قلت: أيحلف مع ذلك؟ قال: لا.
قلت: فإن شهد لها شاهد واحد على البتات، فقطع الشهادة أن زوجها كان يضربها ويضيق عليها، أتحلف معه؟ قال: وكيف يعرف ذلك؟
قلت: يقول سمعته واستبان عندي، قال: إن كان هذا يكون فعسى، وانظر فيه، قال أصبغ: وهو عندي جائز إن لم يكن معه غيره، فكان معه سماعا قاطعا، وإلا حلفت معه، وإن كان معه سماع منتشر، وإن كان غير قاطع رد عليها العطية والوضيعة؛ لأنه مال تحلف عليه مع شاهدها ويمضي الفراق، قال أصبغ: ثم سألته بعد ذلك، فقال: نعم تحلف مع شاهدها، ويرد عليها، وهو مثل الحقوق، وأنا أرى ذلك؛ لأنها إنما تحلف على مال، والطلاق قد مضى بغير ذلك.
قال الإمام القاضي: إجازة ابن القاسم في هذه الرواية شهادة السماع في ضرر الزوج بزوجته دون يمين خلاف أصله في المدونة في أن شهادة السماع، لا يثبت بها النسب ولا الولاء، وإنما يستحق بها المال مع اليمين، واختياره ألا يكتفى في ذلك بشهادة الشاهدين، إنما هو مراعاة لما ذهب إليه ابن الماجشون من أنه لا تجوز في شهادة السماع أقل من أربعة شهداء، وقد مضى تحصيل الخلاف فيما تجوز فيه شهادة السماع مما لا تجوز في صدر نوازل سحنون.
وأما الشهادة في ذلك على البت من جهة السماع، فلا اختلاف في إجازتها، فإن لم يشهد بذلك إلا شاهد واحد حلفت معه، واستردت مالها على ما قاله في آخر المسألة، ولا وجه لتمريضه ذلك في أول المسألة بقوله: فعسى، وانظر فيه، وقول أصبغ: إنه إن لم يكن مع الشاهد على البت غيره حلفت معه، وإن كان معه سماع قاطع أو منتشر غير قاطع ردت عليها العطية والوضيعة، يدل على أنه أنزل السماع منزلة شاهد آخر على البت، فلو انفردت على مذهبه شهادة السماع لم يستحق بها المال دون يمين، فقوله على قياس قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة خلاف روايته عنه في هذه الرواية، فتدبر ذلك وأنعم النظر فيه.

.مسألة شاهد الزورهل تقبل شهادته:

من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في شاهد الزور: هل تقبل شهادته؟ قال: إن عرفت منه توبة وإقبال وتزايد في الخير فأرجو، قيل له: إنها سر، قال: إن عرفت بالتزيد، فأرجو أن تقبل شهادته، ولا أظنه إلا قول مالك.
قال محمد بن رشد: في بعض الروايات أنها سر، وفي بعضها أنها أشد، وفي بعضها أنها أشر، وفي بعضها أنها أبين، والصحيح في المعنى من ذلك رواية من روى أنها سر يريد أن ما يستسر به لا تقبل توبته منه كالزنديق، وظاهر هذه الرواية خلاف ما في المدونة من أنها لا تجوز أبدا وإن تاب وحسنت حاله، وقد قيل: إن معنى رواية أبي زيد هذه إذا أتى تائبا مستهلا مقرا على نفسه بشهادة الزور، قبل أن تظهر عليه، ومعنى ما في المدونة، إذا عثر عليه أنه شهد بزور، ولم يستهل هو بذلك على نفسه، وهو الأولى، والله أعلم.

.مسألة شهد أحدهما على رجل أنه صالح امرأته وشهد الآخرأنه طلقها طلقة أو البتة:

وقال في رجلين شهد أحدهما على رجل أنه صالح امرأته، وشهد الآخر أنه طلقها طلقة أو البتة، قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: لا شيء عليه، لا طلاق عليه؛ لأن شهادتهما توجب اليمين عليه، وهذه مسألة قد تقدمت في مواضع، ومضى القول فيها مستوفى في رسم العرية، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يقضى بشاهدي المطلوب:

وسئل عن رجل أتى بشاهدين يشهدان أن له على فلان عشرين دينارا، وجاء المشهود عليه بشاهدين يشهدان أن هذا المدعى عليه أقر عندنا منذ أشهر أن ليس له قبل فلان شيء، ولا يدري الشاهدان اللذان شهدا على الحق أقبل هؤلاء الشهود أم بعد؟ قال: أرى أن يقضي بشاهدي المطلوب، قيل له: فإن لم يعلم شاهدا المطلوب، ولا شاهدا الطالب متى شهدوا هؤلاء قبل هؤلاء، أم هؤلاء قبل هؤلاء؟ قال: يقضى بشهداء المطلوب.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المطلوب لم ينكر العشرين، لكنه أقر بها، وادعى البراءة منها، واستظهر على ما ادعاه بإقرار الطالب أنه لا شيء له عنده، فالطالب يقول: إنما أقررت له بأنه لا شيء له عندي قبل أن يجب لي عليه العشرون، والمطلوب يقول: إنما أقر بذلك لبراءتي منها إليه بعد وجوبها له علي، فقيل: القول قول المطلوب، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ لأن قوله يقضى بشاهدي المطلوب، معناه يقضى بأن يكون القول قول المطلوب من أجل شهادة شاهدين، وقيل: القول قول الطالب، وهو الذي يأتي على قول ابن نافع في سماع يحيى من كتاب الدعوى والصلح، وهذا إذا كانت بينهما مخالطة، ولو لم تكن بينهما مخالطة؛ لكان القول قول المطلوب قولا واحدا، ولو كان له قبله حق قديم غير هذا؛ لكان القول قول الطالب قولا واحدا، بدليل ما في سماع أشهب من كتاب الوديعة، ووجه القول الأول هو أن إقرار الطالب أنه لا حق له قبله دليل على أنه قد استوفى حقه منه؛ إذ لا يشهد أحد بأنه لا حق له عند من لم يكن قط عنده حق، ووجه القول الثاني: أن الدين قد وجب على المطلوب بإقراره على نفسه، فلا يسقط عنه إلا بيقين، وهو الأظهر، وكذلك إذا أقر المطلوب بعشرين، وأتى ببراءة بعشرين فقال: هي العشرون التي أقررت لك بها، وقال الطالب: بل هي غيرها، يكون القول قول الطالب إن كان له قبله غيرها، والقول فيها قول المطلوب إن لم يكن كان له قبله غيرها، ولا كانت بينهما مخالطة، ويختلف إن لم يكن له قبله حق، وكانت بينهما مخالطة على القولين المذكورين، ولسحنون في نوازله من كتاب المديان والتفليس قول ثالث في هذه المسألة، وهو تفرقته بين أن يأتي المطلوب ببراءة واحدة تستغرق العدد أو ببراءات مفترقات، وهو قول ضعيف، وأما إن كان المطلوب منكرا للعشرين التي قامت عليه البينة بها، فلا إشكال ولا اختلاف في أن القول قول الطالب؛ إذ لا تسقط بينة بأمر محتمل، وإنما يختلف إذا أتى بالبينة أنه قضاه العشرين بعد الإنكار، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الذي عليه الحق:

وسئل عن رجل يكون له على رجل عشرة دنانير، فيشهد الذي عليه الحق أن طالب العشرة دنانير أقر أنها ليست له، وأنها لفلان، وشهد بذلك عليه رجل آخر مع الذي عليه الحق؟ قال: لا تجوز شهادة الذي عليه الحق، ويحلف ذلك الرجل مع شاهده، ويستحق العشرة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أن شهادة الذي عليه العشرة، لا تجوز للطالب؛ لأنه شاهد لنفسه على المشهود عليه أنه لا حق له قبله، وسواء كان الطالب المشهود عليه حاضرا أو غائبا، بخلاف ما كان حاضرا ليس في الذمة مثل أن يقر الرجل أن المال الذي دفعه إليه فلان هو لفلان، أو أن الشيء الذي وضعه على يديه فلان قد تصدق به على فلان، فهذا يفرق فيه بين أن يكون المشهود له حاضرا أو غائبا على ما في كتاب الشهادات وغيره من المدونة، وبالله التوفيق.

.مسألة قيد الرجل ما أشهد عليه بخط يده ثم نسي بعد ذلك:

قلت له: كنت قاعدا عند ضمام، فجاء رجل فأشهدني على شهادة ضمام، فكتبت شهادتي، ثم جاء الرجل بعد حين بكتاب فيه شهادتي، وعرفت خطي، وأثبت أن ضماما أشهدني على شهادته في أمر دار، أذكر ذلك غير أني لا أحفظ أن هذا الكتاب الذي فيه شهادتي قرئ علي، ولا أحفظ أنه أشهدني على هذه الدار التي في هذا الكتاب، قال: إن لم تثبت شهادتك في الكتاب حرفا بحرف، فلا تشهد.
قال محمد بن رشد: إنما هذا إذا قيد الرجل ما أشهد عليه بخط يده ثم نسي بعد ذلك، ولم يذكر جميع ما قيده غير أنه يعرف أنه خطه، وفي هذا اختلاف، وقد مضى بيانه في نوازل سحنون قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة شهدوا على رجل فقال بعضهم قال امرأتي طالق وقال آخرون قال غلامي حر:

قال ابن القاسم في نفر جماعة شهدوا على رجل أنه تكلم بكلمة واحدة، فقال بعضهم: إنما قال: امرأتي طالق، وقال آخرون: إنما قال: غلامي حر؛ لا طلاق عليه ولا حرية عليه، وكذلك لو شهد بعضهم أنه أقر لفلان بمائة دينار، وقال الآخرون: إنه أقر له بمائة درهم أنه لا يلزمه الدنانير ولا الدراهم، ولو شهد بعضهم أنه أقر لرجل بمائة دينارا، وشهد الآخرون أنه أقر له بخمسين دينارا قال: يغرم المائة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الصبرة، من سماع يحيى، وفي نوازل سحنون وأصبغ، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة ما تكافؤ البينة:

وسئل ابن القاسم: ما تكافؤ البينة؟ قال: أن يكونوا في العدالة سواء، ولا ينظر إلى الكثرة من القلة، قيل: أريت إن كان لي شاهد عدل، وجاء صاحبي بشاهدين عدلين إلا أن شاهدي أعدل من الشاهدين؟ قال: يقضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق، ولا يلتفت إلى شهادة الشاهدين وإن كانا عدلين.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها أن الترجيح بين البيتين إنما يكون بكثرة العدالة لا بكثرة العدد، وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك: أن البينتين إذا استوتا في العدالة، وإحداهما أكثر من الأخرى، قضى بالأكثر عددا، إلا أن يكون الأقل عددا كثيرا يكتفي بهم الحاكم فيما يلتمس من الاستظهار، فهنالك لا تغني كثرتهم شيئا، ويكون استواؤهم في العدالة كما لو لم يشهد فيه أحد، فإن كان الشيء المشهود فيه بيد أحد المدعيين أقر بيده، وإن لم يكن بيد واحد منهما استحلفا جميعا، وقسم بينهما بعد الاستيناء إن كان مما يرى الحاكم الاستيناء فيه، ومن أهل العلم من لا يرى الترجيح أصلا، لا في العدالة ولا في العدد، ويقول: إذا شهد شاهدان عدلان ممن تنقطع بهما الشهادة لو لم يكن غيرهما، فهما ومن هو أعدل منهما، وأكثر عددا من البينة بمنزلة سواء؛ لأنهما قد أحقا لمن شهدا له ما أحقه أولئك الذين هم أعدل وأكثر، وهو قول المخزومي، قال ابن حبيب: ولو أخذ أحد بهذا ما أخطأ.
وأما قول ابن القاسم: إنه يقضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق إذا كان أعدل من الشاهدين، فهو خلاف قوله في سماع أصبغ عنه من كتاب الدعوى والصلح، وخلاف ما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون، من أن الشاهدين إذا كانا عدلين أحق من اليمين مع الشاهد الذي هو أعدل أهل زمانه، وهو الأظهر؛ إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم باليمين مع الشاهد أصلا، ومن لا يرى الترجيح بين البينتين أصلا، فالقول بأنه يقضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق إذا كان أعدل من الشاهدين، إغراق في القياس، وقد مضى في آخر سماع عيسى القول في الترجيح بين المعدلين، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يشهد لابن امرأته:

ولا تجوز شهادة رجل يشهد لابن امرأته، وكذلك شهادة المرأة لابن زوجها، أنها لا تجوز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم جاع، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.

.مسألة شهادة رجل على قضاء قاض أنه قضى لفلان على فلان بهذا الحق:

قال: ولا تجوز شهادة رجل على قضاء قاض أنه قضى لفلان على فلان بهذا الحق حتى يشهد على أنه قضى به شاهدان.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة ذكرا أن رجلا استودعهما شهادة والذي استودعهما الشهادة غائب:

وسئل عن رجلين ذكرا أن رجلا استودعهما شهادة، والذي استودعهما الشهادة غائب، فقاما بتلك الشهادة، فشهدا بها وقضى بشهادتهما مع رجل غيرهما، ثم جاء الشاهد الغائب الذي شهد الرجلان على شهادته، فأنكر أن يكون أشهدهما على شيء من هذا الأمر؟ قال: لا ينظر إلى قوله، ويمضي على ما شهدا أولا.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته هنا، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادتهم لمن شهدوا له في مجلسين:

قيل: أرأيت لو شهدت لرجل أن له على رجل عشرة دنانير، وشهد لي الرجل الذي شهدت له أن لي على رجل عشرة دنانير في مجلس واحد؟ قال: إذا كنتما عدلين لا تتهمان في شهادتكما، جازت شهادتك له، وشهادته لك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الاختلاف في هذه المسألة في نوازل سحنون، وتحصيله أن في شهادة الشهود لمن شهدوا له في مجلس واحد ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها لا تجوز. والثاني: أنها جائزة، والثالث: أنها جائزة إن كانت على رجلين، وغير جائزة إن كانت على رجل واحد، وأما شهادتهم لمن شهدوا له في مجلسين فهي جائزة إن كانت على رجلين، وإن كانت على رجل واحد فعلى قولين، وبالله التوفيق.

.مسألة عبد قطع بشهادة حق فظن أنه حر ولم يعلم بذلك حتى عتق:

وعن عبد قطع بشهادة حق، فظن أنه حر، ولم يعلم بذلك حتى عتق؟ قال: يرد الحق ولا يقطع.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما مضى قرب آخر نوازل سحنون، وقد مضى من القول على ذلك هنالك، ما لا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة ابن الملاعنة في الزنا:

قال ابن القاسم: تجوز شهادة ابن الملاعنة في الزنا، ولا يشبه ولد الزنا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر نوازل سحنون، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.